أخي ما بال قلبك ليس ينقى...كأنك لا تظنُ الموت حقا
ألا يا ابن الذين فنوا وبادوا...أمَا والله ما بادوا لتبقـــى
(ابو نواس)
أرضٌ واسعة، الجبال اختفت، أين الأنهار؟
الأشجار؟ فقط رمال و أحجار، وبالجانب الآخر وفي بُقعة اللامكان واللازمان، يوجد
حَشدٌ عظيم من البشر، يتلفتون، يسترقون النظر، بلا ملابس، و أجسادهم مُعْرَقّة ،
كلماتهم مبعثرة، متقطعة، كأنها تتحدث بصوتٍ واحد: " أين نحن الآن؟؟؟ ".
~ المشهد الأول ~
أم محمد، خائفةٌ كالبقية، تنتظر من يُلمْلم بعثرتها من هذا الزحام. ترى وجوهً
غير مألوفة، لم ترها من قبل. تحدثت عيناها الممتلئة بدموعٍ تشبثت بأطراف رموشها:
" من أنتم؟ ولماذا أنا معكم؟ أين أنت يا محمد؟ أنا أمك! أتعرف من هي أمك؟
لحمك، دمك! أتعرف من هي أمك؟ جنتك! نارك! محمـــــــد!!! أنا أمك! ". تناثر
نداءها مع زحمة البشر وتكسّر. وفجأةً وبينما هي تنادي، لمحت سراب فتاةٍ من بعيد،
فرجِعت تباشير الأمل لتجاعيد وجهها. أم محمد: " هل هذه أنتي؟ ميري! خادمتنا
قبل 9 سنوات؟! ". ميري: " نعم، أنا هي سيدتي ". أم محمد: "
أين نحن الآن؟ ولماذا الناس تتجمهر؟". ميري: " لا أعلم، فقد أفقت ووجدت
جسدي هنا، مع هذه الألوان من البشر، كثيرٌ من الوجوه سوداء، وقليلةٌ هي البيضاء ". أم محمد: " ميري، لايهم، فقط ساعديني، لا أجد
أبني محمد، وأنا لا أملك القوّة للبحث لوحدي، ساعديني ". ميري: " أساعدك؟ لما
أساعدك؟؟ أساعدك من أجل اهتمامك بي بالماضي؟ أم من أجل الضرب الذي تلقاه وجهي، والمناديل التي شرِبت دمعي فقط
حين وضعت زيادة قليلة من الملح في غدائك؟ هل تذكرين؟ هل تنكرين؟؟ عذراً لا أملك وقتاً
لكِ سيدتي!! ".
~ المشهد الثاني ~
هناك، في زاويةٍ أخرى، محمد، مُرتعدٌ تماماً كأمه، ملامحة رمادية، أنفاسه
متسارعة، دقات قلبة مُهرولة، يبحث في ملامح البشر عن أقرباءه، أصحابه، أحبابه، يسأل و يسأل
و ما من مُجيب، وبصوت عالٍ: " يــــمه وينك؟ لماذا لا أُشمك؟ لماذا لا أُحسك؟
أنا محمد! أنا الوحيد ابنك!! نسيتِ ابنك؟ نسيتِ حين كبرت في عينك؟ نسيتِ من يشتاق
لقلبك؟ أنا محمد!!! ". وفي قِمة بُكائه، إذ بيدٍ خشنة تمتد عليه لكي تُبعِده
محاولةً المرور، التفت محمد: " راجو! أنت راجو! صحيح؟ مُوصل طلبات المنزل؟ أنت
هنا أيضاً؟ معي؟ أين نحن الآن؟ هل سَمعت صوت أمي؟تكلم! ". راجو: " لا أعلم أين نحن،
ولم أرى أحداً أعرفه إلّا أنت ". محمد: " راجو، ساعدني أرجوك! ".
راجو: " أساعدك؟ لماذا أساعدك؟ أساعدك لأنك رميتني بالحجارة وأنا أوصل طلبات
منزلكم؟ أم أساعدك بسبب سُخريتك علي أنت وأصحابك وأنا مبتسمٌ خوفاً منكم؟ أنا آسف
سيدي، فلا يوجد سببٌ يساعدني لكي أساعدك! ".
يومٌ يسرق الأنفاس، أحداثه قد لا تتشابه تماماً مع يوم الحشر وقد لا تختلف
عنه أيضاً، حيث أن جميع البشر بلا استثناء محشورون مع بعضهم البعض، بلا استثناء،
من جميع الجنسيات والعروق. لا يهم إن كان راجو أو ميري بجانبك في ذلك اليوم، لا
يهم إن كان ملكاً أو وزيراً بجانب عامل نظافة... لا شيء مهم، المهم اننا هنا
جميعاً، رجعت الناس لأصولها، وخرجت من تربتها. من كان يرى عامل النظافة بنظرة دونية
وكأنه خُلق ليخدمه هو، يراه الآن بجانبه. و من كانت تسخر من خادمة المنزل بسبب
رائحتها الكريهة - علماً بأن رائحتها لم تخرج إلّا لأجلها - وكأنها خُلقت لعبادة
أوامرها، تراها الآن بجانبها...
أخوتي، لماذا نرى فضاضةً في التعامل بمن يعملون معنا بالمنزل، الشارع، المحال التجارية...وغيرها، لما لا نُحسن إليهم، فوالله لو كان القدر بأيديهم لما أتوا ليعملوا
تحت الإهانة والذل من بعض (المَرضى) من البشر، والله أن لهم قدمين، و عينين، وقلب،
وعقل... مالفرق؟ هل هي الحاجة فقط. هل هذا بسبب تناسينا لقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
" ( سورة الحجرات 13 ). هل بإمكاننا أن نتقاسم معهم جزءً ولو كان يسيرأ من حقوقهم كبشر؟ هل بإماكانك تصوّر الحياة من دونهم؟ لا أعتقد ذلك. فقط أمعن النظر في مديتنك لترى ما بنوه لك.
وفي آخر سطر ( اذهب
للصحراء، لترى التراب، فتتذكر! ).
أخوكم/ أحمد النعيم